يفصح سؤال المهنية الإعلامية بمفهومه الشمولي عن ذاته كمدخل جدي بارز للدينامكية و التغيير، فلا نستطيع في واقع مسارات الإعلام جلاً إدراك جودة المخرجات الإعلامية، إلا بالاعتماد على قطبين مركزيين في هذا الاتجاه، أولهما كفاءة الموارد البشرية، و ثانيهما بيئة العمل و المؤسسات الإعلامية، و من هذا المنطلق تبرز جدلية شبه ضرورية ذات طرفين متلازمين هي المسئولة بالأساس عن تطوير هذا القطاع الحيوي ذي التأثير الجذري في صياغة حياتنا العامة، تلك الجدلية لتي لم تزل تؤسس لذاتها من داخل ذاتها معربة عن حقيقة قطاع الإعلام باعتباره قطاعا تنمويا يحتاج للتنمية في آفاقها الواعدة لكي يسهم بدوره في التنمية
غير أن هذه المتلازمات والجدلية وطبيعة ودور للإعلام ذاته تبقى نتائجهما مرهونة - في مستوى آخر- بطبيعة الصورة و المنهج الذي يتم تقديمهما بواسطته، وذلك انطلاقا من أن الإعلام كوسيلة أساسية من وسائل التنمية الشاملة للمجتمعات والشعوب لا بد ضرورة أن يؤسس على الخبرات المهنية، فما يؤديه من وظيفة في النهوض بواقع المجتمع، رهين لا محالة بالمحافظة على صوره المنهجية و المضمونية، ولا يتم ذلك بطبيعة الحال إلا إذا كان هذا الإعلام إعلاما مهنيا يقدس مصادر الخبر و يجدد في الأساليب المؤثرة النابعة من قلب الاختصاص و قواعده المألوفة في واقعه المعرفي الخاص، و بكامل أبعاد هذا الواقع، وعند ذلك نصبح في طمأنينة تضعنا على الطريق السليم الذي يسعى إلى تحقيق غايات سامية مثل العدل والانتصار لمبدأ التعايش السلمي المثالي و الاستقرار الذي هو بحق الركن المركزي للتنمية، و ترسيخ ثقافة الحوار الموضوعية المؤسسة على حرية الرأي و الإبداع، وقدرة وسائل الإعلام على المحافظة على الاستقلالية و التعبير عن أحوال المجتمع و الواقع و حماية الثوابت الحضارية
و إذا كانت التنمية ـ على تنوع معانيها ـ ترتبط ارتباطا عضويا بواقع ما يطلق عليه في السياق المعاصر ( الدول النامية ) من حيث هي مجموعة الأدوات و الوسائل التي تسخرها هذه الدول للتصدي لعوامل التخلف قصد إقصائه، من أجل تحقيق تحسين فعلي يشمل المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية، فإنه من الجلي أن هذه العملية المعقدة يرتبط نجاحها و تجسيدها على أرض الواقع بالقالب العام الذي سيتم بثها ضمنه و هو بطبيعة الحال الصورة الإعلامية التي ستروج لتلك الخطط و تحث كافة أطراف المجتمع على ضرورة السير في تيار الجهود التنموية لمختلف أوجه الحياة المهنية.
فإذا كانت عمليات الإعلام الحثيثة لدفع عجلة التنمية نابعة مما يمكن أن نسميه دراية حقيقية بالواقع المعرفي للإعلام كمجال يملك تقنياته و أدواته الخاصة، فإن مستوى أداء فعله داخل السياقات العامة للمجتمع ستكون في أعلى درجات القوة و التأثير، خاصة في فضائنا الحالي الذي يفتح كافة الآفاق لإعلام خلاق وواع بمسئولياته التاريخية و القانونية.
إن الإعلام المهني هو السلطة الرابعة ذات الامتدادات العميقة في الفعل التنموي للشعوب و الأمم، و هو الذي دفع ويدفع بهذا الفعل إلى أقصى مدياته الخلاقة.
إن ما تشهده ساحتنا الوطنية اليوم من انفتاح و تعددية، يمثل بكل جلاء مناخا خصبا للدفع بفعل الكلمة و سلطتها القوية إلى أقصى المديات لتحقيق نهضة تنموية مكتملة الحلقات، لكن ضمن شروط الإعلام المستجيب لمنظومتنا القانونية و الأخلاقية، والاعتماد أولا و أخيرا على ثوابتنا الحضارية
الدكتور محمد يحي ولد باباه