رَأَيْتُ فيما يرى "المشفق" خيالا يطل من شرفة شقة في رأس عمارة من عمائر جيزة القاهرة ينظر بتلميت، وقد رفعها له "أَرَاشْ" فوق ضباب شَبُّورَة النِّيلْ المائية بين وقتي حرمة النافلة وحلها..
يسمع أحاديث الناس، وهو لها غير منكر، لأنه يعرف الجميع كُلُّ باسمه وصفته، ثم تناهى إلي سمعه هاتف يهتف:
بُتِلـــــــِمِيتْ، أَسْــوَ تَرْشَاخْ ـ ـ لَمْـــطَرِّينْ أَهْـلُ مَـنْ لَخْبَارْ
بَيْنْ أَعـْلَابُ عَمَّتْ لَوْسَـاخْ ـ ـ أُكَلْ الَّليْلَه مَصْرُوكْ أَعْلَ دَارْ
سَمَاعُ الهواتف بِالْكِفَانْ كان أمرا شائعا في بتلميت، كُلَّمَا حَزَبَ الناس أمرٌ، ومع ذلك تمتم "الخَيَالْ" بشيء سمعته بصعوبة: <<الجَوُّ خلا لكم "سَدْرَايْتْ محمد ولد محمد اليدالي يَبْسَتْ" وأحمد ولد مَزُّوكْ لم يعد يكتب للقاضي، ولم يعد له "قِراضٌ فِي البَيَّاعَه".. "كُولُ لَغْنَ كَامْلِينْ يَبَّاتِي، لُسَعْ أَرْبِيعْ" كما في المثل الحساني>>..
كنتُ أزعم أني أفهم الكلام من حركة الشفتين فقط، دون أن أسمع "اللفظ المركب المفيد بالوضع" وهذا ما حصل مع حديث "الخيال" لنفسه بحركة شفتيه، يقول:
كان "ولد أنْكِلَامْ" لحرصه على نظافة بتلميت يمتطي نعليه كل ضحوة من رَكْبَةِ الدَّشْرَة إلى أن يجعل البَعْلَاتِيَّة بينه وبين المدينة ويقضي حاجة الإنسان..
كانت "حَنَّه الْحَرَّه" تجول في لَمْبَدِّيَّاتْ تلتقط الأعواد تنظيفا لها، وكان "ولد أَكْمَتْ" يتكفل بجمع زَازُ والشَّرَاوِيطْ من الْمَرْصَه..
فعجزت بلدية بتلميت ـ عجزا مزمنا ـ عن القيام بما كان يقوم به الراحلون: ولد أنْكِلَامْ ـ حَنَّه الحَرَّة ـ ولد أكْمَتْ رحمهم الله..
كان عبد الله العتيق ولد أحمد زائد "إِكَصَّبْ" على المدينة بقراءة خواتم سورة الإسراء قبل غفوته من الليل فيتردد صوته بالتكبير في الأرجاء عند "وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" فلا يدخل سارق بيتا..
كان صوت طَبْلْ "الشيخ الحُكُومَه" في سكون الليل، وصدى "مَدْحْ أهل بَللَّ" و "مَدْحْ أُمْ أرْجَالْ" تدفع ذوي التَّلَصُّصِ، وهي "أقوى إذا دفعت من السيف الصقيل"، فآخر أَشْوَارْ الطَّبْلْ في بتلميت قولهم: "الصَّبْحْ أَصْبَحْ وَظَّوْ أَزْيَانْ" و "يَا النَّائِمِينْ كُومُ صَلُّ"..
كان في حي أهل مُتَّالْ فَرَسٌ، وعلى العَلْبْ السَّاحْلِي عَمَّارْ ولد أَمَّيِّدْ، وفي الجديدة مَدْفَعْ في دار أهل أحْوِيرِيَّه، وفي طيبة رافع ولد الشيباني، وفي الكَوْدْ محمد ولد صمب ولد يَرْكَيْتْ قبل أن تأخذه البادية، فكانت المدينة لا تخاف إلا ساقطا من السماء..
كانت السماء فوق بتلميت مفتوحة لدعاء الْكَهْلَاتْ قبل النوم بقول سِيدْنَا في "يَا مَنْ يُجِيبُ": وَجْعَلْ حَرِيمَنَا حَرِيمًا آمِنَا ـ ـ وَكُنْ بِحِفْظِه كَفِيلًا ضَامِنًا..
لكن ذنوب بلية، يلحنونها "بلدية" حجبت الدعاء، وأذهبت البركة، فعمت السرقة "تعميم" الأوساخ حتى دخلت كل بيت..
صدق الدكتور أدَّلَّ ولد أَمْبَارَكْ، مازلتُ أذكر قوله في ذلك المساء ـ قبل سنوات ـ لجماعة ينتحلون صفة أطر بتلميت، وقوفا، وهو يزور المدينة بعد غياب: "الزِّرَاتْ أَشْمَرْ مَنْ أُطُرْ بُتِلِمِيتْ غَيْرُو فِيهْ شِ، شَفْتْهُمْ رَدْمُ فِيهْ أَدْيَارْ وأُطُرْ بُتِلِمِيتْ مَا شَفْتْهُمْ عَدْلُ فِيهْ شِ"..
دَبَّت الحياة في القاهرة، ونبهني ـ وكثيرا ما فعلها ـ الصوت المُنْكَرُ المنادي "عَيُّوشْ عَيْشْ بَلَّدِّي أُشَامِي"، فقمت، وقد رحل صاحبي..
من صفحة الكاتب على الفيس بوك